الخبر اليقين هو أن هذا اللبناني الألمعي متعدد المواهب، لئن عرفته بلاده وما جاورها من بلدان الشام مذيعا موهوبا منذ مطلع شبابه، وصاحب حنجرة إذاعية متميزة ولغة عربية فصيحة، فإن جيلا خليجيا بكامله اعتاد على صوته الذهبي الهادئ الوقور وهو يقرأ نشرة الأخبار من إذاعة الكويت الرسمية منذ ستينات القرن العشرين، قبل أن يشاهده صوتا وصورة من خلال تلفزيون الكويت الذي بدأ بثه في نوفمبر 1961، حيث كان أول من قرأ نشرة الأخبار يوم افتتاح التلفزيون بالاشتراك مع زميله الإعلامي الكويتي الراحل رضا الفيلي.
على أن الخبر اليقين أيضا هو أن صاحبنا لم يكتف بقراءة الأخبار، وإنما كانت له أدوار في إعداد وإخراج وتقديم العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية من تلك التي ميزت الجهاز الإعلامي الكويتي وظلت محفورة في ذاكرة المستمعين والمشاهدين في منطقة الخليج لسنوات طويلة. فمن من جيل السبعينات والثمانينات لا يتذكر - على سبيل المثال- برنامجه الأشهر «وعند جهينة الخبر اليقين» (برنامج كان يعتمد على النوادر والقصص الطريفة، قبل تحديثه واعتماده على أخبار الابتكارات العلمية) من إعداد سليم سالم وإخراج عبدالأمير التركي، والذي ظل يقدمه على مدى أكثر من ثلاثة عقود منذ عام 1973 بالإشتراك مع الممثلة والمذيعة المصرية ناعسة الجندي، علما بأن هذا البرنامج الأثير قدمه ابتداء المذيع الأردني أسامة المشيني مع الجندي لمدة ستة أشهر، وحينما سافرا للولايات المتحدة استلم أحمد سالم الدفة وظل يقدمه إلى أن عادت الجندي لتنضم إليه.
ومن منا لا يتذكر برنامجه الآخر «نافذة على التاريخ» الذي بدأ في تقديمه منذ الثمانينات؟ وكان يكتب حلقاته «درويش الجميل»، ويشارك فيه نجوم الفن الكويتي من أمثال: غانم الصالح وسعاد عبدالله وعلي المفيدي وأحمد السلمان ومريم الصالح وأحمد الصالح وجاسم النبهان وإبراهيم الصلال وباسمة حمادة وجمال الردهان ونور الهدى صبري وعبدالإمام عبدالله. ومنْ من الذين ولدوا في الخمسينات وعاصروا مخاضات استقلال الكويت لا يتذكر برنامج «قاتل الأحرار»؟ الذي ظل صاحبنا يقدمه من الإذاعة إبان حقبة مطالبة الزعيم العراقي الراحل عبدالكريم قاسم بضم الكويت والتي امتدت من عام 1961 إلى عام 1963، وكان البرنامج يحظى بتشجيع ومتابعة شخصية من وزير الإرشاد والأنباء آنذاك المرحوم الشيخ جابر العلي الصباح لما كان له من دور مهم وحيوي ومؤثر في توجيه الرأي العام الكويتي وبث روح الحماسة والوطنية في نفوس الكويتيين. ومثله برنامج «حقيقة الأخبار» الكوميدي الذي كان يقوم فيه الفنان نجم عبدالكريم بتقليد صوت الزعيم عبدالكريم قاسم، وكان أحمد سالم هو الواقف خلف أعمال المونتاج.
ولد أحمد سالم محمد خالد القصاب الشهير بـ«أحمد سالم» في مدينة طرابلس بشمال لبنان في الأول من يناير 1934 لأسرة كان ربها يعمل إماما لأحد مساجد المدينة وربتها سيدة بيت محافظة. درس مرحلتي التعليم الابتدائي والمتوسط بمدرسة الشباب في طرابلس، وكان ممن زاملهم في هذه المدرسة الفنان اللبناني ماجد أفيوني المعروف عنه شغفه العارم بالتمثيل منذ سنوات دراسته الابتدائية.
بعد أن نال صاحبنا شهادة المرحلة المتوسطة شجعه المطرب اللبناني المعروف محمد سلمان على الالتحاق بنادي التمثيل والموسيقى في طرابلس مع أخته غير الشقيقة فاطمة سالم القصاب الشهيرة بـ«سهام رفقي»، وهي مطربة وممثلة ذاعت شهرتها في الأربعينات، خصوصا بعد ظهورها في ثلاثة أفلام مصرية (البريمو، عودة الغائب، الزناتي خليفة) وتسجيلها أغان بدوية شهيرة مثل «يا أم العباية» و«حول يا غنام»، وأغان وطنية مثل «يا فلسطين جينالك».
وهكذا رتبت الأقدار لأحمد سالم أن يبدأ مشوار حياته ممثلا مسرحيا وهو شاب في مقتبل العمر، حيث شارك في مسرحية أدى فيها دور شرطي يلقي القبض على أحد المجرمين. حدث هذا قبل أن يتحول إلى ممثل إذاعي يقدم التمثيليات من إذاعة دمشق. وكانت البداية من خلال إشتراكه في تمثيلية بعنوان «جميل بثينة» استغرقت بروفاتها وعملية تسجيلها على إسطوانة (33) نحو 45 يوما، تلتها مشاركته في تمثيلية أخرى بعنوان «عاصفة على الحدود.
العمل في السعودية
ويبدو أن الرجل لم يكن مرتاحا في عمله مع الإذاعة السورية، فتركه وانتقل للعمل في إذاعة الشرق الأدنى من بيروت التي وجد فيها مدرسة مثلى لترسيخ مواهبه وصقلها، بدليل بقائه فيها لسنوات طويلة امتدت حتى عام 1956 حينما قرر العاملون في هذه الإذاعة البريطانية أن يتركوا وظائفهم احتجاجا على العدوان الثلاثي على مدينة بور سعيد المصرية. خطوته التالية كانت الانتقال في العام ذاته إلى المملكة العربية السعودية لوضع ما تعلمه في إذاعة الشرق الأدنى من مهارات إذاعية وخبرات وتجارب في التمثيل والإخراج تحت تصرف إذاعة جدة، حيث تولى في الأخيرة وظيفة مذيع ومخرج، وزامل مذيعين سعوديين معروفين مثل عباس فائق غزاوي وبكر يونس ومذيعين فلسطينيين مثل نجدات المحتسب وغانم الدجاني وشريف العلمي وعارف شعث. وخلال عمله في الإذاعة السعودية تعاون مع المذيع والممثل اللبناني رشيد علامة في تحويل كتاب «الأرض المفقودة» إلى مسلسل من ثلاثين حلقة إذاعية، كما أخرج تمثيلية إذاعية بإسم «الكنز»، وأعد برنامجا خاصا للقوات المسلحة تحت اسم «ركن الجيش».
تجربة الكويت
وتقول سيرته الذاتية المنشورة إنه في عام 1960 قرر أن يجرب حظه في مكان آخر، فانتقل مع المذيع الفلسطيني شريف العلمي من السعودية إلى الكويت، وذلك بتشجيع من الموسيقار الفلسطيني«نجدات المحتسب» الذي كان قد استقال من عمله في إذاعة جدة وذهب إلى الكويت قبلهما. ولأنه لم يكن يعرف أحدا في الكويت فقد أسكنه زميله المحتسب معه مؤقتا بمجرد وصوله الكويت في أحد أيام شهر سبتمبر القائض من عام 1960. وفي اليوم الثاني من وصوله قاده المحتسب إلى إذاعة الكويت حيث التقى بمديرها آنذاك محمد الغصين، وكبير مذيعيها حمد المؤمن ومراقبها العام الفلسطيني مصطفى أبوغربية. ومذاك راح يعمل بوتيرة متصلة ودون كلل أو ملل كقارئ لنشرات الأخبار أو كمذيع ربط إلى أن جاء يوم الاستقلال في التاسع عشر من يناير 1961 الذي استنفر فيه الرجل كل قواه وخبراته للدفاع إعلاميا عن حياض الكويت ضد الادعاءات العراقية. وفي عام 1965 تقرر نقله إلى قسم التمثيليات ليكون نائبا لرئيسته أمينة الأنصاري وليساهم في تطوير القسم وتزويده بكتاب ومعدين متمكنين. وهو لئن قام بالمطلوب منه في هذا القسم خير قيام، فإنه أشبع من جهة أخرى شغفه القديم بالتمثيل، حيث قام بأداء أدوار «أبونواس» و«أبوالعتاهية» و«أبوالطيب المتنبي» في عدد من المسلسلات الإذاعية التي لطالما افتخر بها أمام أصدقائه. أما في عام 1973 فقد كان على موعد مع ترقية وظيفية جديدة تمثلت في تعيينه رئيسا لقسم الإخراج بالإذاعة الكويتية.
المحطة الأبرز
ومما لا جدال فيه أن محطته الكويتية كانت المحطة الأبرز والأطول في حياته، بل الأغزر لجهة الإنتاج. ففيها اشتهر وتعملق إذاعيا وتلفزيونيا من خلال تقديم ثمة برامج متميزة. فإضافة إلى نشرات الأخبار وما عددناه آنفا من برامج متنوعة راقية، قدم الرجل برامج أخرى مثل: مكارم الأخلاق، همسات الليل، مجالس العرب، النبأ الحق، القدس لنا، نجوم القمة، سهرة المقعد الخالي الأسبوعية، ناهيك عن برنامج «حدث في مثل هذا اليوم» الذي يستعرض الأحداث السياسية والثقافية والاجتماعية والبيئية بشكل يومي حسب التاريخ الذي وقعت فيه، ويـُعرض من على شاشة أغلب محطات التلفزة العربية بصوت أحمد سالم الرخيم. وفي محطته الكويتية زامل أكثر نجوم الأعمال الإذاعية والتلفزيونية والمسرحية شهرة وصيتا. وفيها حصل على جائزة الإبداع في مسابقة القدس لمهرجان الإذاعة والتلفزيون عن تقديمه لبرنامج «القدس لنا» والذي حصدت إذاعة الكويت من خلاله الجائزة الذهبية. وفيها أيضا عاش حياة الاستقرار والهدوء وسط محبة واحتفاء زملائه حتى تاريخ وفاته صبيحة التاسع من سبتمبر 2012 بمستشفى مبارك عن عمر ناهز الثامنة والسبعين، وذلك على إثر تدهور صحته بسبب معاناته الطويلة من أمراض القلب.
وبوفاة الرجل وإتمام مراسم دفنه بمقبرة الصليبيخات في الكويت التي شهدت الجزء الأسطع من حياته شابا وشيخا، والتي اختارها وطنا بديلا لوطنه اللبناني المختطف، توقفت «جهينة» عن تقديم الخبر اليقين. وغاب عن المشهد الإعلامي والفني الكويتي والخليجي قامة إذاعية كبيرة شهد لها كل من تعامل معها، ليس فقط بالصوت العذب المتميز والأداء الجميل خلف الميكروفون والمشاركة الفاعلة في مسيرة الكويت الإعلامية والخلق الرفيع والتواضع الجم والتسامح الدائم والهدوء والتأمل والرومانسية، وإنما أيضا شهد لها كل من تعامل معها بالإخلاص والتفاني والبذل الذي تجسد في تخرج أجيال من المذيعين الكويتيين من مدرسته بعد تتلمذهم على يديه لسنوات طويلة، ناهيك عن أمر آخر تجسد في رفد مكتبة الإذاعة الكويتية بالعديد من الأعمال الإبداعية الراقية المتميزة على نحو ما أسلفنا. وفي هذا السياق، تكفينا شهادة زميله الإعلامي الكويتي الكبير رضا الفيلي الذي أشار إليه كأحد «الأساتذة الذين كان لهم الباع الطويل بالتدريب الإذاعي والمهني على مخارج الحروف والنطق باللغة العربية وحسن الإلقاء». وتكفينا شهادة المذيعة الكويتية المخضرمة أمل عبدالله التي قالت عنه: «إن الفقيد كان رمزا وعلامة متميزة وعلما من مؤسسي الإعلام الكويتي، لن يتكرر ولن نجد مثيلا له كمذيع ومخرج ومثقف واع في فهم الرسالة الإعلامية الإذاعية، لن ننساه فهو موجود في كل أعمالنا».
قالت عنه الفنانة القديرة سعاد عبدالله في تصريح لها لجريدة «الجريدة» الكويتية (10/9/2012): «لقد أعطى الكويت كثيراً من خلال إخلاصه وتفانيه في العمل. زاملته في الإذاعة قرابة 45 سنة، ومنذ ذلك اليوم حتى قبل رحيله لم نسمع أنه أحدث أي مشكلة. فهو يؤدي وظيفته على أكمل وجه ثم يرحل». وفي نفس العدد من «الجريدة» علق المخرج الدكتور فهد العبدالمحسن، الذي زامله كمخرج وعمل معه كممثل، على خبر وفاته فقال: «إن الكويت فقدت عمودا من أعمدة الإذاعة. لقد غرس فينا (بوجمال) حب العمل الإذاعي، وخصوصا الدراما، وحب الانضباط في العمل والإحساس بقيمة الوقت».
وإذا كان الصحفي اللبناني المقيم في الكويت حمزة عليان كتب في الجزء الثالث من كتابه «وجوه من الكويت» قائلا: «إن أحمد سالم اللبناني له ما يشبهه بالاسم والوظيفة» وذلك في إشارة إلى الممثل والمخرج والمذيع المصري القديم أحمد سالم الذي عــُرف بكونه أول طيار مصري وصديق للملك فاروق، وكان أول من نطق عبارة «هنا القاهرة» سنة 1932 قبل أن يصبح من كبار مذيعي الإذاعة المصرية في منتصف الثلاثينات، ويصير صلة الوصل بين الإذاعة وطلعت باشا حرب الذي ولاه بدوره إدارة شركة مصر للتمثيل والسينما وإدارة ستوديو مصر، فإن أحمد سالم اللبناني يشترك أيضا في الاسم والوظيفة مع إعلاميين آخرين لا يزالان على قيد الحياة. والإشارة هنا إلى الإعلامي المصري أحمد سالم مقدم برنامج 360 درجة من قناة القاهرة والناس، والمذيع الإماراتي أحمد سالم الذي ترأس ذات يوم إدارة إذاعة وتلفزيون أبوظبي، ثم ترأس لاحقا تلفزيون الشارقة قبل أن يصبح عضوا في المجلس الاستشاري لإمارة الشارقة.
قلنا إن اسم أحمد سالم ارتبط ارتباطا وثيقا ببرنامجه الأكثر شهرة «وعند جهينة الخبر اليقين»، لذا لم يكن مستغربا أن تشير المقالات التي كتبتْ في رثائه إلى جهينة وأحوالها من بعد فقد فارسها. فعلى سبيل المثال كتبت صحيفة سبر الإلكترونية (9/9/2012) تحت عنوان «جهينة تنقل الخبر اليقين بوفاة أحمد سالم» ما يلي: «ما الذي ستقوله جهينة بعد رحيل فارسها وأحد رواتها وناقلي أخبارها الثقات؟ جهينة التي ظلت منذ العصور الغابرة على وئام مع التاريخ، هاهي اليوم تتلحف بالحزن، وتصمت عن الحديث بعد أن فجعت بوفاة ابنها البار المذيع القدير أحمد سالم (....). أما التاريخ فسيغلق نافذته حدادا على الصوت الرخيم الذي سكت بعد أكثر من ثلاثة عقود أمضاها يسرد أحداثه على مستمعي إذاعة الكويت، وينقل أدق التفاصيل عن الممالك والملوك والأمراء والوزراء والولاة والشعراء والأدباء والمحدثين».
من الأعمال الدرامية التي أخرجها أحمد سالم لصالح الإذاعة الكويتية مسلسلات: وراك وراك/1976، زواج بالكمبيوتر/1983، من طاع ضاع/1987، بومرزوق/1987، مخروش طاح بكروش/1991، الآنسة أم علي/1995، وضاعت الأندلس/2011.
على أن الخبر اليقين أيضا هو أن صاحبنا لم يكتف بقراءة الأخبار، وإنما كانت له أدوار في إعداد وإخراج وتقديم العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية من تلك التي ميزت الجهاز الإعلامي الكويتي وظلت محفورة في ذاكرة المستمعين والمشاهدين في منطقة الخليج لسنوات طويلة. فمن من جيل السبعينات والثمانينات لا يتذكر - على سبيل المثال- برنامجه الأشهر «وعند جهينة الخبر اليقين» (برنامج كان يعتمد على النوادر والقصص الطريفة، قبل تحديثه واعتماده على أخبار الابتكارات العلمية) من إعداد سليم سالم وإخراج عبدالأمير التركي، والذي ظل يقدمه على مدى أكثر من ثلاثة عقود منذ عام 1973 بالإشتراك مع الممثلة والمذيعة المصرية ناعسة الجندي، علما بأن هذا البرنامج الأثير قدمه ابتداء المذيع الأردني أسامة المشيني مع الجندي لمدة ستة أشهر، وحينما سافرا للولايات المتحدة استلم أحمد سالم الدفة وظل يقدمه إلى أن عادت الجندي لتنضم إليه.
ومن منا لا يتذكر برنامجه الآخر «نافذة على التاريخ» الذي بدأ في تقديمه منذ الثمانينات؟ وكان يكتب حلقاته «درويش الجميل»، ويشارك فيه نجوم الفن الكويتي من أمثال: غانم الصالح وسعاد عبدالله وعلي المفيدي وأحمد السلمان ومريم الصالح وأحمد الصالح وجاسم النبهان وإبراهيم الصلال وباسمة حمادة وجمال الردهان ونور الهدى صبري وعبدالإمام عبدالله. ومنْ من الذين ولدوا في الخمسينات وعاصروا مخاضات استقلال الكويت لا يتذكر برنامج «قاتل الأحرار»؟ الذي ظل صاحبنا يقدمه من الإذاعة إبان حقبة مطالبة الزعيم العراقي الراحل عبدالكريم قاسم بضم الكويت والتي امتدت من عام 1961 إلى عام 1963، وكان البرنامج يحظى بتشجيع ومتابعة شخصية من وزير الإرشاد والأنباء آنذاك المرحوم الشيخ جابر العلي الصباح لما كان له من دور مهم وحيوي ومؤثر في توجيه الرأي العام الكويتي وبث روح الحماسة والوطنية في نفوس الكويتيين. ومثله برنامج «حقيقة الأخبار» الكوميدي الذي كان يقوم فيه الفنان نجم عبدالكريم بتقليد صوت الزعيم عبدالكريم قاسم، وكان أحمد سالم هو الواقف خلف أعمال المونتاج.
ولد أحمد سالم محمد خالد القصاب الشهير بـ«أحمد سالم» في مدينة طرابلس بشمال لبنان في الأول من يناير 1934 لأسرة كان ربها يعمل إماما لأحد مساجد المدينة وربتها سيدة بيت محافظة. درس مرحلتي التعليم الابتدائي والمتوسط بمدرسة الشباب في طرابلس، وكان ممن زاملهم في هذه المدرسة الفنان اللبناني ماجد أفيوني المعروف عنه شغفه العارم بالتمثيل منذ سنوات دراسته الابتدائية.
بعد أن نال صاحبنا شهادة المرحلة المتوسطة شجعه المطرب اللبناني المعروف محمد سلمان على الالتحاق بنادي التمثيل والموسيقى في طرابلس مع أخته غير الشقيقة فاطمة سالم القصاب الشهيرة بـ«سهام رفقي»، وهي مطربة وممثلة ذاعت شهرتها في الأربعينات، خصوصا بعد ظهورها في ثلاثة أفلام مصرية (البريمو، عودة الغائب، الزناتي خليفة) وتسجيلها أغان بدوية شهيرة مثل «يا أم العباية» و«حول يا غنام»، وأغان وطنية مثل «يا فلسطين جينالك».
وهكذا رتبت الأقدار لأحمد سالم أن يبدأ مشوار حياته ممثلا مسرحيا وهو شاب في مقتبل العمر، حيث شارك في مسرحية أدى فيها دور شرطي يلقي القبض على أحد المجرمين. حدث هذا قبل أن يتحول إلى ممثل إذاعي يقدم التمثيليات من إذاعة دمشق. وكانت البداية من خلال إشتراكه في تمثيلية بعنوان «جميل بثينة» استغرقت بروفاتها وعملية تسجيلها على إسطوانة (33) نحو 45 يوما، تلتها مشاركته في تمثيلية أخرى بعنوان «عاصفة على الحدود.
العمل في السعودية
ويبدو أن الرجل لم يكن مرتاحا في عمله مع الإذاعة السورية، فتركه وانتقل للعمل في إذاعة الشرق الأدنى من بيروت التي وجد فيها مدرسة مثلى لترسيخ مواهبه وصقلها، بدليل بقائه فيها لسنوات طويلة امتدت حتى عام 1956 حينما قرر العاملون في هذه الإذاعة البريطانية أن يتركوا وظائفهم احتجاجا على العدوان الثلاثي على مدينة بور سعيد المصرية. خطوته التالية كانت الانتقال في العام ذاته إلى المملكة العربية السعودية لوضع ما تعلمه في إذاعة الشرق الأدنى من مهارات إذاعية وخبرات وتجارب في التمثيل والإخراج تحت تصرف إذاعة جدة، حيث تولى في الأخيرة وظيفة مذيع ومخرج، وزامل مذيعين سعوديين معروفين مثل عباس فائق غزاوي وبكر يونس ومذيعين فلسطينيين مثل نجدات المحتسب وغانم الدجاني وشريف العلمي وعارف شعث. وخلال عمله في الإذاعة السعودية تعاون مع المذيع والممثل اللبناني رشيد علامة في تحويل كتاب «الأرض المفقودة» إلى مسلسل من ثلاثين حلقة إذاعية، كما أخرج تمثيلية إذاعية بإسم «الكنز»، وأعد برنامجا خاصا للقوات المسلحة تحت اسم «ركن الجيش».
تجربة الكويت
وتقول سيرته الذاتية المنشورة إنه في عام 1960 قرر أن يجرب حظه في مكان آخر، فانتقل مع المذيع الفلسطيني شريف العلمي من السعودية إلى الكويت، وذلك بتشجيع من الموسيقار الفلسطيني«نجدات المحتسب» الذي كان قد استقال من عمله في إذاعة جدة وذهب إلى الكويت قبلهما. ولأنه لم يكن يعرف أحدا في الكويت فقد أسكنه زميله المحتسب معه مؤقتا بمجرد وصوله الكويت في أحد أيام شهر سبتمبر القائض من عام 1960. وفي اليوم الثاني من وصوله قاده المحتسب إلى إذاعة الكويت حيث التقى بمديرها آنذاك محمد الغصين، وكبير مذيعيها حمد المؤمن ومراقبها العام الفلسطيني مصطفى أبوغربية. ومذاك راح يعمل بوتيرة متصلة ودون كلل أو ملل كقارئ لنشرات الأخبار أو كمذيع ربط إلى أن جاء يوم الاستقلال في التاسع عشر من يناير 1961 الذي استنفر فيه الرجل كل قواه وخبراته للدفاع إعلاميا عن حياض الكويت ضد الادعاءات العراقية. وفي عام 1965 تقرر نقله إلى قسم التمثيليات ليكون نائبا لرئيسته أمينة الأنصاري وليساهم في تطوير القسم وتزويده بكتاب ومعدين متمكنين. وهو لئن قام بالمطلوب منه في هذا القسم خير قيام، فإنه أشبع من جهة أخرى شغفه القديم بالتمثيل، حيث قام بأداء أدوار «أبونواس» و«أبوالعتاهية» و«أبوالطيب المتنبي» في عدد من المسلسلات الإذاعية التي لطالما افتخر بها أمام أصدقائه. أما في عام 1973 فقد كان على موعد مع ترقية وظيفية جديدة تمثلت في تعيينه رئيسا لقسم الإخراج بالإذاعة الكويتية.
المحطة الأبرز
ومما لا جدال فيه أن محطته الكويتية كانت المحطة الأبرز والأطول في حياته، بل الأغزر لجهة الإنتاج. ففيها اشتهر وتعملق إذاعيا وتلفزيونيا من خلال تقديم ثمة برامج متميزة. فإضافة إلى نشرات الأخبار وما عددناه آنفا من برامج متنوعة راقية، قدم الرجل برامج أخرى مثل: مكارم الأخلاق، همسات الليل، مجالس العرب، النبأ الحق، القدس لنا، نجوم القمة، سهرة المقعد الخالي الأسبوعية، ناهيك عن برنامج «حدث في مثل هذا اليوم» الذي يستعرض الأحداث السياسية والثقافية والاجتماعية والبيئية بشكل يومي حسب التاريخ الذي وقعت فيه، ويـُعرض من على شاشة أغلب محطات التلفزة العربية بصوت أحمد سالم الرخيم. وفي محطته الكويتية زامل أكثر نجوم الأعمال الإذاعية والتلفزيونية والمسرحية شهرة وصيتا. وفيها حصل على جائزة الإبداع في مسابقة القدس لمهرجان الإذاعة والتلفزيون عن تقديمه لبرنامج «القدس لنا» والذي حصدت إذاعة الكويت من خلاله الجائزة الذهبية. وفيها أيضا عاش حياة الاستقرار والهدوء وسط محبة واحتفاء زملائه حتى تاريخ وفاته صبيحة التاسع من سبتمبر 2012 بمستشفى مبارك عن عمر ناهز الثامنة والسبعين، وذلك على إثر تدهور صحته بسبب معاناته الطويلة من أمراض القلب.
وبوفاة الرجل وإتمام مراسم دفنه بمقبرة الصليبيخات في الكويت التي شهدت الجزء الأسطع من حياته شابا وشيخا، والتي اختارها وطنا بديلا لوطنه اللبناني المختطف، توقفت «جهينة» عن تقديم الخبر اليقين. وغاب عن المشهد الإعلامي والفني الكويتي والخليجي قامة إذاعية كبيرة شهد لها كل من تعامل معها، ليس فقط بالصوت العذب المتميز والأداء الجميل خلف الميكروفون والمشاركة الفاعلة في مسيرة الكويت الإعلامية والخلق الرفيع والتواضع الجم والتسامح الدائم والهدوء والتأمل والرومانسية، وإنما أيضا شهد لها كل من تعامل معها بالإخلاص والتفاني والبذل الذي تجسد في تخرج أجيال من المذيعين الكويتيين من مدرسته بعد تتلمذهم على يديه لسنوات طويلة، ناهيك عن أمر آخر تجسد في رفد مكتبة الإذاعة الكويتية بالعديد من الأعمال الإبداعية الراقية المتميزة على نحو ما أسلفنا. وفي هذا السياق، تكفينا شهادة زميله الإعلامي الكويتي الكبير رضا الفيلي الذي أشار إليه كأحد «الأساتذة الذين كان لهم الباع الطويل بالتدريب الإذاعي والمهني على مخارج الحروف والنطق باللغة العربية وحسن الإلقاء». وتكفينا شهادة المذيعة الكويتية المخضرمة أمل عبدالله التي قالت عنه: «إن الفقيد كان رمزا وعلامة متميزة وعلما من مؤسسي الإعلام الكويتي، لن يتكرر ولن نجد مثيلا له كمذيع ومخرج ومثقف واع في فهم الرسالة الإعلامية الإذاعية، لن ننساه فهو موجود في كل أعمالنا».
قالت عنه الفنانة القديرة سعاد عبدالله في تصريح لها لجريدة «الجريدة» الكويتية (10/9/2012): «لقد أعطى الكويت كثيراً من خلال إخلاصه وتفانيه في العمل. زاملته في الإذاعة قرابة 45 سنة، ومنذ ذلك اليوم حتى قبل رحيله لم نسمع أنه أحدث أي مشكلة. فهو يؤدي وظيفته على أكمل وجه ثم يرحل». وفي نفس العدد من «الجريدة» علق المخرج الدكتور فهد العبدالمحسن، الذي زامله كمخرج وعمل معه كممثل، على خبر وفاته فقال: «إن الكويت فقدت عمودا من أعمدة الإذاعة. لقد غرس فينا (بوجمال) حب العمل الإذاعي، وخصوصا الدراما، وحب الانضباط في العمل والإحساس بقيمة الوقت».
وإذا كان الصحفي اللبناني المقيم في الكويت حمزة عليان كتب في الجزء الثالث من كتابه «وجوه من الكويت» قائلا: «إن أحمد سالم اللبناني له ما يشبهه بالاسم والوظيفة» وذلك في إشارة إلى الممثل والمخرج والمذيع المصري القديم أحمد سالم الذي عــُرف بكونه أول طيار مصري وصديق للملك فاروق، وكان أول من نطق عبارة «هنا القاهرة» سنة 1932 قبل أن يصبح من كبار مذيعي الإذاعة المصرية في منتصف الثلاثينات، ويصير صلة الوصل بين الإذاعة وطلعت باشا حرب الذي ولاه بدوره إدارة شركة مصر للتمثيل والسينما وإدارة ستوديو مصر، فإن أحمد سالم اللبناني يشترك أيضا في الاسم والوظيفة مع إعلاميين آخرين لا يزالان على قيد الحياة. والإشارة هنا إلى الإعلامي المصري أحمد سالم مقدم برنامج 360 درجة من قناة القاهرة والناس، والمذيع الإماراتي أحمد سالم الذي ترأس ذات يوم إدارة إذاعة وتلفزيون أبوظبي، ثم ترأس لاحقا تلفزيون الشارقة قبل أن يصبح عضوا في المجلس الاستشاري لإمارة الشارقة.
قلنا إن اسم أحمد سالم ارتبط ارتباطا وثيقا ببرنامجه الأكثر شهرة «وعند جهينة الخبر اليقين»، لذا لم يكن مستغربا أن تشير المقالات التي كتبتْ في رثائه إلى جهينة وأحوالها من بعد فقد فارسها. فعلى سبيل المثال كتبت صحيفة سبر الإلكترونية (9/9/2012) تحت عنوان «جهينة تنقل الخبر اليقين بوفاة أحمد سالم» ما يلي: «ما الذي ستقوله جهينة بعد رحيل فارسها وأحد رواتها وناقلي أخبارها الثقات؟ جهينة التي ظلت منذ العصور الغابرة على وئام مع التاريخ، هاهي اليوم تتلحف بالحزن، وتصمت عن الحديث بعد أن فجعت بوفاة ابنها البار المذيع القدير أحمد سالم (....). أما التاريخ فسيغلق نافذته حدادا على الصوت الرخيم الذي سكت بعد أكثر من ثلاثة عقود أمضاها يسرد أحداثه على مستمعي إذاعة الكويت، وينقل أدق التفاصيل عن الممالك والملوك والأمراء والوزراء والولاة والشعراء والأدباء والمحدثين».
من الأعمال الدرامية التي أخرجها أحمد سالم لصالح الإذاعة الكويتية مسلسلات: وراك وراك/1976، زواج بالكمبيوتر/1983، من طاع ضاع/1987، بومرزوق/1987، مخروش طاح بكروش/1991، الآنسة أم علي/1995، وضاعت الأندلس/2011.